بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد:
أخي الكريم:
من منا لا تجنح به نفسه إلى المعاصي والسيئات، ومن منا تنزه عن اقتراف الزلات والخطيئات.. فكل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون. لذلك فإن التوبة هي معيار الصلاح، ودليل الفلاح، وطريق سلَكَهُ خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» [رواه البخاري]. ولذلك كان التائب من أهل الله وخاصته، قد خصه بحبه ورحمته، فقال تعالى: {إنَّ اللهَ يُحبُ التَّوابِينَ وَيُحبُ المُتَطَهّرِينَ} [البقرة: 222]. بل إن الله - جل وعلا - ليفرح بتوبة التائب رضى بما يصنع ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لله أشد فرحاًَ بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» [رواه مسلم]. أخي الكريم: عُد إلى الله - جل وعلا -، ولَبّ نداءه وهو يناديك، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. فقد علق الله - جل وعلا - في هذه الآية، فلاح المؤمن بالتوبة فلن يفلح عبد أعرض عن الرجوع إلى الله، وتمادى في غيه وطغيانه، وزيغه وعصيانه. أخي: يا من فتح الله له باب التوبة ليلاً ونهاراً، وأخبره بأنه كان غفاراً، ووعده إذا تاب بأن يرسل السماء عليه مدراراً، ويمدده بأموال وبنين ويجعل له جنات ويجعل له أنهاراً !! ارجع إلى الله، واسكب دموع الندم، قبل زوال القدم. فكم غمست برّه! وكم عصيت أمره! وكم كفرت خيره! .. ولم تزل معتكفاً على شنيع ما نهاك عنه وزجرك! فعُد إلى الله، فإن باب التوبة مفتوح. فال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [رواه مسلم]. فهل بقي لك في تأخير التوبة عذر؟ لماذا أتوب؟ لتستأنف المسير مع ركب السائرين إلى الله - جل وعلا - لتجعل سرور الشيطان بمعصيتك حسرات، لتعرف قدر نفسك وأن فيك من النقص والجهل ما يسقطك في حبائل السيئات..{وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72], {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28], {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11]. أخي المسلم: يا من خلقك ربك فسواك.. وهو الذي رزقك وكساك.. وأطعمك وسقاك.. ومن كل خير سألته أعطاك.. ومع ذلك عصيت وما شكرت.. وأذنبت وما استغفرت.. تنتقل من معصية إلى معصية.. ومن ذنب إلى ذنب كأنك ستخلد في هذه الدنيا ولن تموت. تبارز الله بالمعاصي والذنوب.. غافلاً ساهياً عن علاّم الغيوب.. فليت شعري متى تتوب! أتتوب عند الممات.. أتتوب عند هجوم هادم اللذات. وهل تظن يقبل منك ذلك في تلك اللحظات ؟ ! استمع إلى من أنعم عليك وهو يتحدث عن أولئك الذين بارزوه بالذنوب والمعاصي.. ولم يخشوا يوما يؤخذ فيه بالأقدام والنواصي.. أنظر ماذا يقول الله عنهم: {حَتَّى إذا جَاءَ أَحَدَهُم المَوتُ قالَ رَبّ ارجعُونَ} [المؤمنون: 99] لماذا تتمنى الرجعة يا هذا {لَعَلّيِ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت} فيقال له توبيخاً (كلا) نعم كلا فقد أمهلناك .. كلا فقد تركناك فتماديت وما رجعت وما باليت .. كلا فقد انتهى الوقت {كَلاَّ إنَّهّا كَلِمَةٌ هُوَ قَائُلِهَا وَمِنَ وَرَائِهم بَرْزَخٌ إلَى يَوْم يُبْعَثُونَ} قد تقول ماذا أفعل؟ ماذا أصنع؟ أذنبت كثيراً .. عصيت كثيراً .. أقول لك: أخي عجّل .. عجّل ما دام الباب مفتوحاً. نعم لا يزال باب التوبة مفتوحاً لك. يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» [رواه الترمذي] و «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» [ابن ماجه]. وابشر ببشارة الله لك..ولكل المذنبين والتائبين .. اسمعها في قول الله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عملاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللهُ سَيَئَاتِهِم حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحيماً } [الفرقان: 70]. فعجّل - يا عبد الله - ولا تجعل للشيطان إليك سبيل. عجّل قبل {أن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فيِ جَنبِ الله وَإن كُنتُ لَمنَ السَّاخرينَ (56) أو تَقُولَ لَو أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ (57) أوْ تَقُولَ حَيِنَ تَرَىَ الَعَذَابَ لَو أَن لَيِ كَرَّةً فَأكُونَ منَ المُحْسِنِين} [الزمر: 56 -58]. واعلم أن الله يفرح بتوبتك أشد الفرح، فماذا تنتظر ؟! وللتوبة شروط.. أخي الكريم: فإذا علمت أن التوبة واجبة من كل ذنب، فأعلم أن لها شروط لا تقبل إلا بها. فإذا كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى، ولا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط: أحدهما: أن يقلع عن المعصية. الثاني: أن يندم على فعلها. الثالث: أن يعزم ألا يعود إليها أبداً. فإذا فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته، وأما إن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي، سواء في الأموال أو الأعراض أو غيرها من حقوق العباد، فشروط التوبة حينئذ أربعة: 1- الثلاثة التي ذكرناها في الأول. 2- والرابع: أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كانت حدّ قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منه، فهذه الشروط هي شروط التوبة النصوحة، قال تعالى: {يَا أَيُهَا الذيِنَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً}[التحريم: 8]. وتذكر - أخي - أن التقصير من لوازم البشرية، وأن النقص من طبائع الإنسان، فكل إنسان فيه من الشهوة، وغلبة الطبع، والغفلة ما يوقعه في التقصير، وإنما تتفاوت الخطيئات بتفاوت المجاهدة والتوفيق. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم» [رواه مسلم]. وقد كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس ملازمة للتوبة والاستغفار، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحدة مائة مرة ": «رب اغفر لي، وتب على إنك أنت التواب الرحيم» [رواة الترمذي]. وكان يدعو في صلاته ويقول: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» [رواه البخاري]. وكان يقول في و ضوءه: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين» [رواه الترمذي].
فاحرص - أخي الكريم - رعاك الله - على التوبة والاستغفار،
فإنهما سبب الفلاح والنجاح،
وأصل الهداية والرشاد، وطريق الصالحين والعباد.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك،
ومثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك
والله أعلم.